اعتقاد بعض الناس بـأنه لا يمكن للعقاقير الدوائية المادية المحسوسة أنْ تعالج المعاناة
2
اعتقاد بعض الناس بـأنه لا يمكن للعقاقير الدوائية المادية المحسوسة أنْ تعالج المعاناة النفسية غير المحسوسة .
ولعلي أردُّ على هذا الاعتقاد بذكر حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " التلبينةُ مَجَمَّـةٌ لفؤادِ المريض تذهب ببعض الحزن ".
قال ابن القيم في شرحه : " التلبين هو حساء متخذ من دقيق الشعير بنخالته ، وهي تذهب ببعض الحزن بخاصية فيها من جنس خواص الأغذية المفرحة ، فإن من الأغذية ما يفرح بالخاصية " ، انتهى كلام ابن القيم.
والأدوية مثل الأغذية ، فمنها ما يذهب الحزن والغم دون أنْ يكون فيها محظور شرعي .
و نتيجةً للتقدمِ العلميِّ الغربيِّ الكبير الذي حدثَ ،والأبحاث الضخمة التي تمت في مجال الطب النفسي-كما في المجالات الأخرى -فقد ظهر أن الأمراض النفسية لها ما تُمكن تسميتهُ مراكزَ في الدماغ على غير ما كان سائدًا في منتصفِ القرن الحالي من أنها مرتبطة بذكريات الطفولة ولا يمكن معالجتها إلا بالتحليل النفسي ، وبناءً على نتائج ما تم من أبحاث وتوظيف التقنيات الحديثة في الطب مثل الرنين المغناطيسي وتخطيط الدماغ فقد ثبت وجود اضطراب كيميائي في بعض مناطق المخ ،المسؤولة عن المزاج والمشاعر والسلوك والذاكرة واصبح لكل مرض علاجه الدوائي بالإضافة لعلاجه النفسي السلوكي والتحليل النفسي في بعض الأحيان .
و لكيْ أوَضِّـحِ الأمْرَ أكثر لغيْرِ الأطباء ؛ فإنَّ المخَّ البشَرِيَّ يتكونُ من آلافِ الملايينِ من الخلايا العصبيةِ وَ هناكَ مراكِـزُ في المخِّ لكافةِ الوظائِفِ النفسيةِ والبيولوجيةِ للإنسان فهناك مركزُ الحركة و مراكزُ للتحكم في ضغط الدم ودقَّـاتِ القلبِ والتنفس وكذلك هناك مراكزُ للذاكرَةِ و السلوكِ و المِزاجِ والوِجْـدان وَ يرتبطُ المخ بالحبل الشوكيِّ الذي يقعُ داخلَ العمودِ الفَقَـرِيِّ وهو يحتوي على عدد ضخمٍ من الخلايا العصبية و بذلك يتمكنُ من نقلِ كل أنواعِ المعلوماتِ منْ وإلى المخ من خلال الإشاراتِ العصبية ، و تتصل الخلايا العصبية التي يتكون منها الجهاز العصبي بعضها ببعضٍ بواسطةِ مشابكَ " نقط الاشتباكِ العصبي " حيثُ يقَعُ كلُّ مشبكٍ بينَ الخليَّـةِ المُرْسِلَـةِ و الخلية المستقبِـلَـةِ للإشارَةِ العصبية ؛ و هذه المشابكُ أو المسافاتِ الرقيقةِ بالرغمِ من أنها تفصل ما بينَ الخليتينِ إلا أنها في الواقعِ تربطُ ما بينهما كيميائيًـا حيثُ أنَّ الرسائلَ " الإشاراتِ العصبية " تنتقل خلال المشبك بينَ الخليَّـتيْـنِ بواسِطَـةِ مواد كيميائية تُسَمَّى الناقلاتِ العصبية "و من أمثلتها السيروتونين ، الدوبامين ، الأدرينالين ؛ النور أدرينالين و الأستيل كولين .. إلـخ ...
وَ زيادة أو نقص هذه الناقلات العصبية في المخ يؤدي إلى اضطراب الوظائفِ النفسية للإنسان في حين أنَّ إعادَةَ ضبط تركيزها و إيجاد التوازنِ المناسب فيما بينها يعيد الإنسان إلى اتزانه في سلوكه و سعادته في حياته ! وقد سئل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز عن حكم استعمال الأدوية لعلاج المرض النفسي ، فأجاب :
المشروع لكل من لديه علم بشيء من الأدوية الشرعية أو المباحة التي يعتقد أن الله ينفع بها المريض أنْ يفعل ذلك سواءً سُمى ذلك طباً نفسياً ، أو شرعياً ، أو دواءاً عادياً أو غير ذلك من الأسماء .
المطلوب أنْ يتحرى الطبيب المعالج ما يراه نافعاً في علاج المرضى الذين بين يديه بما ليس فيه محظور شرعاً سواءً كان بالقراءة أو بمأكول مباح أو بمشروب مباح أو أشياء أخرى لا محظور فيها، قد جُرب أنه تزيل ما أصاب المريض من الخلل في عقله ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما أنزل الله داءاً إلا أنزل له شـفاء علمه مـن علمه وجهله من جهلـه " ولقـوله صلى الله صلى الله عليه وسـلم " عـباد الله تـداووا ولا تـداووا بحرام " . صدق رسول الله.
كما أثبتت التجارب العلمية العديدة أن أكثر الأمراض النفسية يصاحبها خلل يتمثل في تغير مستوى بعض الناقلات العصبية في الدماغ ، وأن هذه الأمراض تزول - بإذن الله - إذا تم إصلاح ذلك الخلل بواسطة الأدوية النفسية .
و أعود هنا إلى مقالة ابن عمران في المالينكوليا و هو يحدثنا عن طرق العلاج و قد كتبه ابن عمران بغاية الإتقان وتعرض فيها إلى الأدوية والعلاجات الكلية والجزئية لكي أوضحَ كيف كان يفكر علماءُ المسلمين .
فقد تعرض ابن عمران إلى مختلف الوسائل العلاجية التي يمكن ترتيبها كما يلي حسب التبويب الحديث:
1- الوسائل التي ترتكز على النفس .
2- الوسائل التي ترتكز على البيئة والمحيط
3- وسائل العلاج بالحمية والتغذية.
4- العلاج بالطرق الفيزيائية .
5- العلاج بالأدوية والعقاقير .
ا- العلاج بالوسائل النفسية:
هنا يركز ابن عمران اهتمامه على ضرورة الاعتناء بالمريض حتى تزول ظنونه، وذلك بالكلمات الجميلة الأنيقة و بالحيل المنطقية والمواساة والموسيقى والتنزه في الهواء الطلق والغابات والبساتين الزاهرة الخ.
فيحرص على التنقل من المكان الذي وقعت فيه الإصابة فينصح بالأجواء التي تميل إلى الحرارة وتقل رطوبتها-و بالابتعاد عن الأماكن المتعفنة بل ينتبه حتى إلى وجهة المنازل بالنسبة للأرياح.
2-العلاج بالتغذية والحمية:
هنا يؤكد ابن عمران الاعتناء بالصحة العامة وذلك بتنظيم الأسباب الاضطرارية الستة المذكورة أعلاه وهي: العمل والحركة السكون، والنوم واليقظة، الطعام والشراب، الهواء المتنسم والمستنشق، الاستفراغ والامتناع، وأخيرا الأحداث النفسية ،كما أنه يشير إلي العديد من الأغذية من حيث الكم والكيف لتكون دائما لينة نقية صالحة.
3-العلاج بالوسائل الفيزيائية:
يقول بن عمران في كل يوم الاستنقاع في الماء الحار العذب، والماء البارد في صميم الصيف والدهان بعد التنشيف بالمناديل واستخدام الأدهنةِ الكثيرة الرطوبة مثل، دهن الكتان وزيت اللوز ودهن السوسن ودهن الخرذل، والتي تستعمل إما لدلك الرأس أو لدلك الجسد كله.
4-العلاج بالأدوية والعقاقير:
يذكر هنا التفاصيل اللازمة لإعدادها والكمية المناسبة لكل عشب من الأعشاب فطريقة الاستعمال وقت تناولها ويقسمها إلي أدوية صالحة للعلاج الكلي وأدوية صالحة للعلاج الجزئي (الإسهال مثلا) ولقد ذكر إجمالا الدواء الذي يصلح لكل صنف من أصناف المالينخوليا رتبها حسب نوعيتها إلى بنادق وجوارش، وسفوف وايارج ومفاتل وملينات وادهان وغيرها.
ا- البنادق: هى أدوية تقدم في شكل أقراص معطرة مختلفة العطور تتركب أساسا من الهيليلج الأسود الهـندي والأفتيمون والقمونيا ودهن اللوز.
2- الجوارش: وهي أدوية تقدم في شكل معجون غلال مع عدة عقاقير صالحة للإسهال.
3- الايارج: وهي أنواع من ألا شربة.
4- البسامح: وهي أدوية مسهلة تستعمل عن طريق الشرج.
5- ثم يرجع ابن عمران إلي الملينات التي يصفها حسب تأثيرها المنشط أو المهدئ.
6- وأخيرا إلى الأدوية المستخرجة من الأفيون وغلف الخشخاش، والتي يشير بها في الحالات الخطرة كالشرسام، والمعروف إن هذه الأدوية كانت تستعمل إلي عهد قريب في المالينخوليا .
وفي الختام يقول ابن عمران: "فإن الحذق بهذه الصناعة أعنى صناعة تركيب الأدوية عظيم المعنى في الطب".
فإذا كان الحديث النبويُّّ الشريفُ و دراسات أطبائنا المسلمين القدامى تتكلمُ عن مداواةٍ بالمحسوس لغير المحسوس و كانت دراساتٌ علمية حديثةٌ بعدد شعر الرأس أجراها مسلمون و غيرُ مسلمين قد أثبتت ذلك فهل هناك مجالٌ بعدُ للسؤال؟
|