عرض مشاركة واحدة
قديم 20-08-2002, 10:48 PM   #47
Fatma
عضو مميز جدا وفـعال


الصورة الرمزية Fatma
Fatma غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 271
 تاريخ التسجيل :  07 2001
 أخر زيارة : 30-04-2012 (09:42 AM)
 المشاركات : 1,583 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue


بسم الله الرحمن الرحيم

بهاء الدين الاميري00شاعر الانسانية المؤمنة
تعرفت على الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري، وأنا طالب في المرحلة الثانوية عن طريق مجلة "الشهاب" التي كان يصدرها الإمام حسن البَنَّا، ويديرها الداعية المحبوب سعيد رمضان، وذلك سنة 1948م، والتي لم يقدر أن يصدر منها غير خمسة أعداد، ثم اختار الله صاحب امتيازها ورئيس تحريرها شهيدًا إلى جواره سبحانه. وقد سنّت المجلة سنّة حسنة: أن تختم كل عدد بما أسمته "سجل التعارف الإسلامي".

كان سجل التعارف يحوي في كل عدد صور مجموعة من العلماء والمفكرين والدعاة من مصر، ومن سائر أقطار العالم الإسلامي، وفي مقابل كل صورة: تعريف موجز مركَّز بشخصية صاحب الصورة وإشارات إلى مجمل سيرته.

وهدف المجلة: أن توجد رباطًا عاطفيًّا بين القراء وهؤلاء الأعلام حين يطلعون على صورهم وسيرهم.

وقد عُني سجل التعارف الإسلامي بالتعريف بعدد من الشخصيات الإسلامية السورية المرموقة، مثل الداعية الفقيه الدكتور مصطفى السباعي، والفقيه العلامة الشيخ مصطفى أحمد الزرقا، والكاتب والمفكر الأستاذ محمد المبارك، والسياسي الفقيه الدكتور معروف الدواليبي، والكاتب الداعية الأستاذ أحمد مظهر العظمة أمين التمدن الإسلامي، والعلامة الشيخ محمد بهجت البيطار.

وكان من الصور التي نشرت في العدد الثالث: صورة عمر بهاء الدين الأميري، وهو شاب في مقتبل العمر، وكتبت المجلة تحته: المحامي بحلب، ووكيل الدعوة الإسلامية.

ثم ذكرت نبذة عنه في الصفحة المقابلة فقالت: سوري من صفوة أبناء حلب وُلِد سنة 1329هـ، وقضى بعض عمره المبارك في الدراسة بفرنسا، وتخرّج في "الحقوق السورية" سنة 1940م، وكان نجاحه منقطع النظير. واشتغل بالمحاماة مشترطًا على موكليه أن يتخلى عن دعاواهم إذا ظهر وجه الحق في غير جانبها! واشتغل بالحركة الإسلامية منذ نعومة أظفاره، وأسس مركزًا للدعوة الإسلامية في باريس، وهو شاعر مطبوع ومجاهد مؤمن.

هذه السطور الموجزة المضيئة فتحت قلبي الفتيّ البكر في ذلك الوقت للأميري صاحب المثل والمبادئ، الذي يتخلى عن قضية موكله إذا تبين له أن الحق مع خصمه، ولا يبالي بما سيخسر من مال في مقابل تنازله عن القضية.
كما أن وصف المجلة له بـ "الشاعر المطبوع" فتح قلبي له أكثر، فقد كنت معنيًّا بالشعر مشغولاً به في تلك المرحلة من عمري.

اول ماقرأت للأميري
وأذكر أني في ذلك العدد نفسه من مجلة "الشهاب" وفي باب "روضة الأدب" قرأت له -أول ما قرأت- شعرًا ربانيًّا عذبًا رقراقًا لم يكن لنا به عهد في ذلك الوقت، تحت عنوان "خماسيات الأميري" وفيها مناجاة لله تعالى كأنما تسمع فيها رفيف أجنحة الملائكة وكأنما هي ترتيلة أو صلاة مجسدة في شعر مؤمن أو إيمان شاعر، يقول الأميري:

كلما أمعن الدجى وتحالك شممت في غوره الرهيب جلالك!
وتراءت لعين قلبي برايا من جمال آنست فيها جمالك!

وتراءى لمسمع العقل همس من شفاه النجوم يتلو الثنا لك[1]
واعتراني تولُّه وخشوع واحتواني الشعور: أني حيالك
ما تمالكت أن يخر كياني
ساجدًا عابدًا، ومن يتمالك؟[2]

هكذا بدأت معرفتي بالأميري شاعرًا، وهو لا شك في المقام الأول شاعر: شاعر بموهبته وشاعر بممارسته، ولكنه ليس شاعرًا سائبًا، إنه شاعر ذو رسالة. فليس الشعر عنده آلة لمديح الأمراء أو الكبراء، ولا لهجاء الخصوم والأعداء، ولا أداة للتعبير عن الغرائز الهابطة، إنه "شاعر الإنسانية المؤمنة" كما يحلو له أن يعبِّر عن نفسه، أو يعبر عنه عارفوه ومن يكتب عنه.
قصيدة _ اب _
ومن قصائده الجميلة والرائعة التي قرأتها له قبل أن ألقاه: قصيدة "أب" التي نشرتها له مجلة "المسلمون" الشهرية التي كان يصدرها الأستاذ سعيد رمضان، وتصدر من خارج مصر، وهي في الحق من روائع الشعر العربي الحديث، كتبها وهو في مصيف "قرنابل" بلبنان، وقد سعد بأسرته وأولاده خلال الصيف، ثم انتهت العطلة ورحل الأولاد عنه وعادوا إلى حلب، وبقي الشاعر وحده في البيت الذي أصبح اليوم موحشًا كالقبر بعد أن كان بالأمس جنة وارفة الظلال، بما فيه من حياة وحركة وبركة وسعادة.

يقول الأميري في قصيدته:

أين الضجيجُ العذبُ والشَّغَبُ؟
أين التَّدارسُ شابَهُ اللعبُ؟

أين الطفولة في توقُّدها؟ أين الدُّمى، في الأرض، والكتب؟
أين التَّشَاكسُ دونما غَرَضٍ؟ أين التشاكي ما له سبب؟
أين التَّباكي والتَّضاحُكُ، في وقتٍ معًا، والحُزْنُ والطَّربُ؟
أين التسابق في مجاورتي شغفًا، إذا أكلوا وإن شربوا؟
يتزاحمون على مُجالَستي
والقرب منِّي حيثما انقلبوا
فنشيدهم "بابا" إذا فرحوا ووعيدهم "بابا" إذا غضبوا

وهتافهمْ "بابا" إذا ابتعدوا ونجيُّهمْ "بابا" إذا اقتربوا
بالأمس كانوا ملءَ منزلنا واليومَ -ويح اليومِ- قد ذهبوا
ذهبوا، أجل ذهبوا، ومسكنهمْ في القلب، ما شطّوا وما قَرُبوا
إني أراهم أينما التفتت نفسي، وقد سكنوا، وقد وثبوا
وأُحِسُّ في خَلَدي تلاعُبَهُمْ في الدار، ليس ينالهم نصب
وبريق أعينهمْ إذا ظفروا ودموع حرقتهمْ إذا غُلبوا
في كلِّ ركنٍ منهمُ أثرٌ وبكل زاويةٍ لهم صَخَبُ
في النَّافذاتِ، زُجاجها حَطَموا في الحائطِ المدهونِ، قد ثقبوا
في الباب، قد كسروا مزالجه وعليه قد رسموا وقد كتبوا
في الصَّحن، فيه بعض ما أكلوا في علبة الحلوى التي نهبوا
في الشَّطر من تفّاحةٍ قضموا في فضلة الماء التي سكبوا
إنِّي أراهم حيثما اتَّجهتْ عيني، كأسرابِ القَطا، سربوا
بالأمس في "قرنابلٍ" نزلوا واليومَ قدْ ضمتهمُ "حلبُ"
دمعي الذي كتَّمتُهُ جَلَدًا لمَّا تباكَوْا عندما ركبوا
حتى إذا ساروا وقد نزعوا منْ أضلعي قلبًا بهمْ يَجِبُ
ألفيتُني كالطفل عاطفةً فإذا به كالغيث ينسكبُ
قد يَعجبُ العُذَّال من رَجُلٍ يبكي، ولو لم أبكِ فالعَجَبُ
هيهات ما كلُّ البُكا خَوَرٌ إنّي -وبي عزم الرِّجال- أبُ

لقد هزتني هذه القصيدة الفريدة لما احتوته من قوة التصوير وروعة التعبير، عن مشاعر الأبوة الحانية وعواطف الطفولة اللاهية ودقائق الخلجات النفسية التي قد تراها متناقضة الظاهر، منسجمة الباطن، وما فيها من صور حية رسمها الحرف الناطق والحس الصادق والشعر الرائق، المعبر -بسلاسة منقطعة النظير- عن أعمق أعماق المشاعر، وأحنى حنايا العواطف، في لغة جزلة وجمل عذبة وعبارات رشيقة وأسلوب أخاذ متدفق كالعذب الزلال والسحر الحلال.

وعرفت بعد ذلك أن الشاعر والأديب الكبير الأستاذ عباس العقاد كان من أشد المعجبين بهذه القصيدة، حتى قال عنها في ندوة من ندواته المعروفة، التي كان يعقدها في منزله بمصر الجديدة، في صباح كل جمعة، وكان ذلك في رمضان 1381هـ، قال: لو كان للأدب العالمي ديوان من جزء واحد، لكانت هذه القصيدة في طليعته!.

كما عرفت أنها ترجمت إلى الفرنسية، وقورنت بقصائد الشاعر الفرنسي الكبير "فيكتور هوجو" في الأطفال.

وقد نشرها الشاعر بعد ذلك في ديوانه "ألوان طيف" كما نشرها كذلك في ديوان "أب" مع تسع قصائد أخرى حول الأبوة والبنوة، وقد كتبه بخط يده، ونشر مصورًا كما هو بخطه الجميل، وقال في تقديمها: عشر قصائد من وحي الأبوة.. لوحات فيها مكابدة ومعاناة.. صور وجدانية.. متعددة متحولة، يعيش ألوانها وأكوانها: كل إنسان أب، وكل أب إنسان!.


 

رد مع اقتباس