عرض مشاركة واحدة
قديم 24-06-2008, 01:57 AM   #1
اسامه السيد
عضومجلس إدارة في نفساني


الصورة الرمزية اسامه السيد
اسامه السيد غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 19648
 تاريخ التسجيل :  03 2007
 أخر زيارة : 10-11-2020 (02:43 AM)
 المشاركات : 12,794 [ + ]
 التقييم :  94
لوني المفضل : Cadetblue
المجهول .. قصه قصيره



كان " عبدالبصير " من أؤلئك الطلبه الذين تبدو هيئتهم الريفيه

واضحه للعَيان ؛ والذين قَلْ أن تنسجم الملابس الأفرنجيه مع

بنيتهم القويه الخشنه ...

عهدته مُجتهداً فى التحصيل ؛ نابهاً ؛ يتمتع بذكاء لمَّاح ؛ وهو إن

لم يكن يُخالطنا فى لهونا أو ألعابنا أثناء اليوم الدراسى ؛ إلا أنه

كان جم الأدب ؛يُحسن مُعاملة زُملائه ومُعلميه ...

رحل من قريته البعيده الى المدينه ليلتحق بمدرستنا ؛ وأقام

بإحدى البنايات التى لاتبعد كثيراً عن المدرسه ...

زاملنى طيلة سنوات دراستى الثانويه ؛ وكاد العام الأخير منها

ينصرم دون أن يحدث بيننا مايلفت النظر أو يستحق الذكر ؛ لولا

هذا اليوم الذى لا أنساه ؛ والذى لم تستطع الأيام رغم كرورها

أن تمحو ماجرى فيه من مُخيلتى ....

كان يوماً فى أُخريات العام الدراسى ؛ وكنا نذهب الى المدرسه

فى أعداد قليله ؛ نظراً لرغبة الكثيرين منَّا فى المُذاكرة بالمنزل

طلباً للتركيز ؛ وبُعداً عن مضيعة الوقت ؛ ولم يكن يحرص على

الحضور اليومى للمدرسه سوى أمثالى ممن يستهويهم الترويح

عن النفس من ملل المُذاكره بلقاء الزُملاء ؛ وإقامة مباريات الكره

فى فناء المدرسه ..

فى هذا اليوم دخلنا الفصل فى الميعاد ؛ وبدأنا فى استعراض من

حضر ومن غاب ؛ وبالطبع لم نلتفت لـغياب " عبدالبصير " ؛ فهو

قد اعتاد أن يتغيب مُعسكراً فى منزله للمُذاكره ..

وبعد أن دق جرس الحصه الأولى بقليل ؛ فوجئنا بدخول زميلنا

" عبد البصير " الى الفصل .. لم يكن يحمل معه كتباً أو مُذكرات

وإنما كان يحمل وجها لم نره منه من قبل !!

كان مُكفهرَّاُ ؛ شارد اللُّب ؛ زائغ البصر ؛ صامتاً صمتاً ثقيلاً ؛ حتى

انه لم يُلق التحيه المُعتاده علينا ..

جلس الى مكتبه دون أن يلتفت يميناً أو يساراً ؛ ودون أن

ينتبه الى الأعيُن المُحدقة به تريد استجلاء غموضه ..

وعلى حين بغته ؛ انخرط فى بُكاء مرير طويل ؛ وانهمرت من

عينيه الدموع مدراراً ؛ واحتقن وجهه بشده ؛ وانتفض جسده فى

رعشه هستيريه ....

ماذا به ؟! وما خطبه ؟!

ألجمتنا المُفاجأه ؛ وعقلت ألسنتنا الدهشه مما نرى ؛ واستحالت

حركتنا سكوناُ واجماً ؛ حتى تقدم أشجعنا منه مُحاولاً الإستفسار

عن هذه الحالة الغريبه التى طرأت عليه ؛ والتخفيف عنه إن كان

مستطاعاً ؛ إلا أنه ظل صامتاً لايريم ؛ وكأنما يجلس فى الفصل

وحده ؛ أو لكأنما نسى الكلام ...

ظللنا على هذه الحاله برهه من الزمن ؛ نحاول إخراجه مما هو

فيه ؛ وهو على صمته وإعراضه عنا ؛ حتى لمحنا من بعيد

" حضرة الناظر " مُقبلاً ومعه رجل متوسط القامه ؛ ربعه أميل

الى الطول منه للقِصر ؛ يرتدى الملابس الريفيه ؛ وقصدا توهما

زميلنا الباكى ؛ وكأنما أتيا اليه خصيصاُ ..

وما إن رآهما " عبدالبصير " حتى كفكف دموعه ؛ وأمسك عن

بكائه ونحيبه ؛ وتعلقت عيناه بذلك الرجل الغريب ؛ فيما قال

" حضرة الناظر " له : قُم يابُنى مع عمك ؛ فقد استوصيته بك

خيراً .. فقام " عبدالبصير " مُتثاقلاً يجُر رجليه جرَّاً ؛ حتى إذا

كان عند الباب نظر إلينا نظرة جامعه دامعه حِرنا فى تفسير

فحواها ؛ وسار مع عمه حتى غيَّبهما المُنحنى ؛ وتواريا عن

الأنظار ...

دفعنا الفضول الى سؤال " حضرة الناظر " تفسيراُ لما رأيناه

وما حدث أمامنا ؛ إلا أنه أجاب بإقتضاب : عبد البصير سوف

يرحل مع عمه الى البلده لحين الإمتحان ... فلم تشف إجابته

غليلنا ؛ ولم تجلُ الضباب والغشاوة اللذين أحاطا بالموقف ...

عُدت الى دارى عقب انتهاء اليوم الدراسى ـ وكان الأخير قبل

عقد الإمتحان النهائى ـ وأنا أضرب أخماساً فى أسداس ؛ وأذهب

فى تأويل مارأيته كل مذهب ؛ وأسترجع معلوماتى السابقه عن

زميلنا العزيز لعلى أجد فيما مضى تعليلاً شافياً ؛ وأجهدنى

التفكير دون أن أصل الى بُغيتى ؛ فقررت إرجاء الأمر الى حين

ألقى زميلى العزيز فى لجنة الإمتحان وأعرف منه تفاصيل ماحدث ....

مضى اسبوعان على هذا اليوم ؛ وحان وقت الإمتحان الذى

سيتحدد على ضوئه مُستقبل كل منَّا فى الحياة ؛ والكُليَّه التى

سيدخلها لإكمال دراسته العُليا ...

ورغم ما يُحيط بالنفس فى هذه الآونه من إضطراب وقلق ؛

إلا أن ذلك لم يمنع عيناى أن تسبقانى الى حيث زميلى

" عبدالبصير " وكلى لهفه للقائه ؛ وسؤاله الذى إختزنته بنفسى

طيلة هذين الأسبوعين ...

ولشدَّ ماكانت دهشتى عندما لم أعثر له على أثر !!!

لم يأتِ إذن للإمتحان ؛ رغم توَّقُعى أن يكون أول الحاضرين!!

انتظرت ؛ عساه أن يأتى مُتأخراً كما يفعل بعض الطلاب ؛ ولكن

بدأ دخولنا الى مقار اللجان دون أن يظهر ؛ واتخذنا أماكننا

المرقومه مُسبقاً ؛ وبقى مكانه خالياً كقبر فاغر فاه ؛ أو كموضع

الضرس المخلوع من بين صفوف الأسنان المُتراصه ..

أثار غيابه فى نفوسنا من الغرابه والتساؤل بمقدار ماأثاره فينا

موقفه الغريب منذ اسبوعين ؛ وبدأ القلق يساورنا على الزميل

العزيز من أن يكون قد أصابه مكروه أو بأس ...

وما إن انتهت اللجنه حتى أسرعنا الى السكن الذى كان يقطنه

أيام الدراسه نسأل عنه ؛ فأجابنا صاحب المنزل بأنه لم يره منذ

فارقه قبل اسبوعين ....

ولم يكن أحد منا يعرف تحديداً بلدته ؛ كما أن مكتب شئون

الطُلاب بالمدرسه والذى يحتوى على ملفه كان مُغلقاً بسبب

عقد الإمتحان النهائى ...

إذن ؛ فقد ذهب " عبدالبصير " لمصير لا يعلمه سواه ؛ وأورثنا

حزناً وألماً لغيابه ؛ عجزت السنون والأيام عن محوه من الذاكره..

تمضى بنا الأيام مُخلفةً أعذب الذكريات تارة ؛ وأكثرها حُزناً وشجناً

تارة أُخرى ؛ لكن تبقى للمرء علامات فى الحياة وأشخاصاً التقى

بهم يحفرون فى نفسه أخاديد غائره وتساؤلات حائرة ...


*** بقلمى ***
المصدر: نفساني



 

رد مع اقتباس