16-07-2003, 11:01 PM
|
#29
|
عـضو أسـاسـي
بيانات اضافيه [
+
]
|
رقم العضوية : 2160
|
تاريخ التسجيل : 08 2002
|
أخر زيارة : 26-11-2007 (11:33 AM)
|
المشاركات :
1,193 [
+
] |
التقييم : 38
|
|
لوني المفضل : Cadetblue
|
|
مصافحـــة :
موجع أن لا تدرك ما تخافه ..؟!!
( 3 )
* نورة ... اسم له بريقه .. له دفئه .. وشم في عضدي .. لونه خضّب جلدي .. من الضوء احتوت صفائه .. من الشمس أخذت شعاعها .. تلك اسم جدتي .. حين أناديها به أشعر أنها تعود للوراء ثمانين سنة .. كأني بهـا تريد القفز .. تتوق إلى الصراخ .. إلى رمي عباءتها ، وخمارهـا .. إلى الجري دون حذاء .. في فمها تتزاحم الكلمات .. تود أن تقول : ، ولا تقول : ..؟!! اقرأ في عينها مئات الذكريات لقريتها إلى رفيقات طفولتها ، وعنزتهـا .. أبقى حائرا ماذا أفعل ..؟! وأسأل نفسي أفتحتُ جرحا ؟!! وأنا كذلك إذا بدمعـة كحبة لؤلؤة تتلألأ بين جفنيها .. تداريهـا .. تخشى سقوطهـا .. انحنيتُ .. وشحتُ بوجهي عنها .. كي أبقي لهـا ما لا ترغب الإفصاح عنه .. أفيق بعد أن تضع يدهـا على كتفي لتقول لي أنا لستُ إلا جدتك .. بل أمك .. !! من لحظتهـا ما تفوهت باسمها إلا مع نفسي متمتماً .
* في الخامسة من عمري شعرت بجدتي أكثر .. تعلقت بهـا .. ذاك اليوم كان معلما في حياتي حين حملني والدي مع أمي المثقلة بحمل أخي لتلد في دار جدتي .. كُنت خلفهم حافي القدمين .. أتذكر ثوبي القطني القديم .. الوحيد المصفّر عمرا ، وغبرة .. كلما غُسل زادت كدرته ، ألبسه دون شيء تحته يستره .. لا يضم إلا جيبا واحداً مخروقا .. من كثرة ما أعبث فيه .. أنام فيه وحين أصحو إذا به ألف كسرة ، ودوائر ، وتموّجات ، وخطوط من أثر ما كُنـت أعانيه من تبول لا إرادي أستمر معي حتى التاسعة من عمري .. طوال الدرب الذي نسير فيه كُنت أبكي ، وأطلب أن يبتاع لي أبي ثوبا أزرق رأيته على أبن جيراننــا .. أبي كان صامتاً .. وصراخي يزداد كلما أوشكنا للدار .. قبيل أن يطرق باب جدتي الشبه مشرعا .. قال : أصمـت ، وفي العيد أبتاع لك الثوب .
* أول من ولج الدار أنا ، وارتميت في حضن جدتي .. شعرت بالأمن .. تساءلت جدتي عن سبب بكائي الذي سمعته بقرب الدار .. لم يخبرها أبي .. ما أذكره أن يديه تحمل شيء منحه لجدتي .. ثم خرج من الدار .. كانت أمي مجهدة من الطريق .. جلست على عتبة السلم المؤدي إلى الأعلى .. تلتقطُ أنفاسهـا ، ويدها تحوم على بطنها كأني بها تتلمس شيء موجعا تريد انتزاعه .. ضللت متشبثا بيدي بين أرجل جدتي .. ووالدتي قد أغلقت صعودنا إلى الأعلى حيث غرف الدار .. كان مدخل الدار بسعــة ثلاثة أمتار في أربعة ، هي حظيرة الغنم ليلاً إذا عادت من المرعى مساء .. وفي الركن الأيسر زاوية مظلمة عبارة عن دورة مياه مكشوفة للوضوء " صهروج " أما دورة المياه دون مياه " البرج " فكانت في سطح بيت الطين .. وهو برج يمتد من أعلى السطح إلى أسفل الدار له باب صغير خارج الدار .. ُيحمل منه ما فيه من تراكمات الآدميين ، وما يغطى به من بقاياء رماد النار ليطفئ الروائح ، ويحمي الدار من التلوث .. ويحيله إلى روث يابس يسهل حمله لمن أعتاد ذلك بشكل دوري مقابل أجرة رمزية .. داخل البرج المشرع بابه لا ماء ، ولا محارم أوراق .. لكن هناك حس مشترك بمعرفة انشغاله بأحد أفراد الأسرة .. كعادة تجذرت كــ سلوكاً للصغار قبل الكبار هي التنحنح بصوت عالِ بمجرد الرغبة في استخدامه .. عن يمين بهو الدار ممر صغير ينتهي بغرفة سداسية أو سباعية الأركان تمضي فيها جدتي معظم ساعات الصباح والعصر مع جارتها " الكفيفة " المشهورة " بالممرضة " أو المولدة ، وعلى يديها كانت ولادتي .. ، كلا جدتي والكفيفة شريكتين في طحن القمح دقيقا لأهل القرية بالطريقة التقليدية " الرحـى " حجرين مدورين أحدهما ثابت ، والآخر مخروقا من منتصفة ، وفي أحد أطرافه ، مقبضة خشبية بحجم الكف لتحريكه ، بعد وضع حبات القمح من خلال الفتحـة ، كُنت كثيرا أتسلل خلسة إلى تلك الغرفة ، وخلف الكفيفة املأ كفي الصغير من القمح ثم أنثره على الرحى .. أحاول أن أفعل مثلهما ، لكن الحبوب تتناثر يمينا وشمالاً .. بعد أن تتساقط تلك الحبوب على كف جدتي تعرف بوجودي ، فتتلفت .. بعد أن تمد ذراعها لتمسك بساقي ، وتسحبني برفق ، وتقبلني ، وتهمس في أذني وتعدني أن ذهبت إلى الأعلى بحلاوة ، و" قريض " تجلب مع الحجيج إذا عادوا .. حلوى أشكالها غريبة لا شكل لهـا .. ألوانها مختلفة قاسية كالحصى إلا أنها عذبة تبقى لساعات في فيك قبل أن تذوب .. فرق شاسع بينها ، وإصبع شي كولا " فليك .. الذي يذوب على شفتيك قبل أن تبتلعـه !! .. عن يسار باب الدار مباشرة بداية الدرج الملتوي ليس وفقا لرسم هندسي ، وإنما لبناء تلقائي ، وفق مزاج من شيّده .. استدارت والدتي ، وأنا ، وجدتي خلفهـا .. كانت تتكئ بأحد يديها على الجار ، والأخرى محتوية بطنها .. .على إيقاع أنفاسها اللاهثة ، وزفراتها المتعبة .. كنت أضع قدمي على عتبة ، وانقلها إلى عتبة أخرى ، وفي الآن نفسه أعدُّ العتبات فكنت أحفظ العد حتى العشرين دون أخطأ .. كُنـت أمارس العد كلما صعدت الدرج أو نزلت .. حتى بقيتُ .... سنوات ، وكأني مصابا بطقوس العد للدرج .. أعرف إذا وصلت في العد إلى الرقم خمسة عشر أكون قد شارفت نهاية الدرج فألتفت يميناً .. لأعدو إلى غرفة الجلوس كعادتي .. تفاجأت بالكفيفة العجوز بعد أن اصطدمت بها .. تسبح ، وتهلل ، وأمامها حوض بحجمي مملوء ماء ... ما إن دخلت بعدي أمي وجدتي الغرفة إلا وبجدتي تسحبني بعنف ما توقعته منها إلى خارج الغرفة .. وجدتني منكباً في زاوية خلف الغرفة ، وأذني لا تسمع إلا تسبيحا ، وآهات من والدتي تزداد ارتفاعا ... لا أعرف ماذا يجري ..؟! لحظتها انتابني خوف ، ورعبِ استبدا بي فشغلني عما أنا أتسأل عنه !! بقيتُ أتأمل داخلي ، وأرقب أحاسيساً غريبة مخيفة تنتشرُ من كل زوايا جسدي ، وحرارة تلفح داخلي ، وتخنُـقـني .. سقطتُ جالساً ، وضممتُ ركبتي مطوقا ساعدي عليها ، كأني أخبأ نفسي داخل نفسي .. اشعر بالعرق يغمرني ، ويتصبب مني فأخافني كثيراً .. شعرت أن ثوبي مبللاً ... تخنقني رطوبته أكثر ، وتكتم أنفاسي ، أحاول استجدا الهواء إلى رئتي .. تلك الخبرة أذكرها أشبه " بنوبة الهلع " لمن تنتابهم أول مرة !! أفقتُ من تلك الدائرة القاتلة بصراخ أمي .. صراخ أعرف أنه لا يصدر إلا من يقع له ضربا أو وجع موجع !! لم تطل بي الإفاقة فقد غفيتُ قسرا عني ... لم أصحو إلا يدا جدتي تلامس شعر رأسي بلطف ، وهي توقظني قُـم .. قُـم !!! أصبح لك أخاً .. كانت مبتسمــة .... في كلا كفيّها حلاوة ، ولعبة صغيرة .. أخذتُ ما منحتني لكن نبأ مجيء أخي ، وحاجتي لأرى أمي ... أنساني ما في يدي فتناثر كل شيء في كفّيَّ ، وأنا أعدو ، وأعدو إلى أمي .. انكببتُ عليهـا ، وأنا أبكي ، وأسأل سؤالا ، خلفه سؤال .. لماذا طردتني جدتي ؟ لماذا أنتِ تصرخين ؟! هل سيشتري أبي لي ثوبا أزرق .. أغلقت فمي بضمها لي على صدرهــا .. لحظتها كما أنا الآن أبكي !! .
|
|
التعديل الأخير تم بواسطة أ.القحطاني ; 16-07-2003 الساعة 11:17 PM
|